Thursday 11 January 2018

من أوراق شيوعي سابق (4) الثورة الاشتراكية العظمى بدأت من مصنع والدي

أقنعوني بأن عبد الحليم حافظ مغن برجوازي، علاقته بحبيبته التي يغني لها في الأغاني والأفلام قائمة على العبودية، وهي هدف أساسي لـ"البرجوازية الرأسمالية"، 
نعم، فقد بدأتها من مصنع والدي رحمة الله عليه، بإضراب العمال بالكامل عن العمل، ممتلئاً بشعور أنه أخيراً بدأنا الطريق الطويل إلى الدولة الاشتراكية. بدأ والدي حياته "بناء"، أي يبني البيوت في قريتنا الصغيرة في محافظة الشرقية. ولضيق الحال انتقل مع اخواته الى مدينة شبرا الخيمة الناشئة، والتي كانت تنهي بعشوائية بقاياها الزراعية لكي تنتقل الى صناعة عشوائية ايضاً. كانت خليطاً عجيباً من العمال وبقايا الفلاحين وتجار وطبقة متوسطة بسيطة.
 بعد كفاح طويل استطاع والدي وإخوته تأسيس أول مصنع صغير لهم. كان ذلك في سبعينيات القرن الماضي، في عهد الرئيس الأسبق أنور السادات. وكان والدي رحمه الله يردد دائماً مقولته الشهيرة "اللى مش هيعمل فلوس في عصري، عمره ما هيشوفها تاني". كان الرئيس الأسبق محقاً وكان والدي وإخوته يهرولون على الطريق الطويل للثراء.
 هذا الصعود لشرائح اجتماعية جديدة، كان مصحوباً بخشونة شديدة في التعامل مع العمال والفقراء. لم يكن لدى الصاعدين الجدد ولاء لقيم رأسمالية أو مجتمعية رحيمة، لا يعرفون سوى الربح ومزيدا من الربح. فلم يعرفوا مثل الرأسماليين العقلاء أن الاستثمار في صحة وتعليم العامل، يحقق ربح على المدى البعيد، وأن العامل لا يقل أهمية عن الماكينات.
 على الجهة الأخرى لم يكن هناك تراث عمالي متراكم ينطلق من خلاله العمال للدفاع عن مصالحهم. كانت شبرا الخيمة المدينة العمالية مع بقايا ريفية في أوائل ثمانينيات القرن الماضي، تبدو وكأنها تبدأ من أول السطر في الطريق الرأسمالي.
 كان عبد الناصر قد قضى تقريباً على الرأسمالية المصرية، مصانعها وثقافتها بحلوها ومرها. أمم الحركة العمالية والحق تنظيماتها بالاتحاد الاشتراكي (حزبه) وبالأجهزة الأمنية، ألغى تراثها النضالي للحصول على حقوقها بطريقة سلمية. قايض المصريين على حقوقهم الاقتصادية مقابل حريتهم. 
 جاء السادات ليعيدها إلى الحياة من جديد، ويقلص "رأسمالية الدولة" أي القطاع العام. لذلك كان الجميع محشورين في خشونة البدايات، خشونة اكتشاف موازين قوى جديدة، وموضع الأقدام لهذا المجتمع الذي يعاد صياغته من جديد.
الأقربون أولى بالإضراب
 في ظل هذا المناخ المحموم، ومتمرداً على طبيعة والدي الصارمة، وبترحيب المسؤول في حزب العمال الشيوعي، نفذت أول إضراب في مصانع القطاع الخاص في شبرا الخيمة، وكان في مصنع والدي (الأقربون أولى بالمعروف). كانت العمال أوضاعهم متردية، يعملون بلا أي حقوق ومن دون أية مظلة حماية. اعتمدت على "ربيع" و"أحمد" اللذين تم تجنيدهما من قبل في الحزب، وحصلوا على دورات تثقيفية مبدئية. كنت أقود الإضراب من على مقهى غير بعيد، وبالفعل توقفت الماكينات، ورفع بعض العمال على الحائط مطالبهم والتي كنت قد كتبتها من قبل.
 كانت المؤشرات الأولية ممتازة، لكن سرعان ما انهار كل ذلك وفشل الاضراب فشلاً ذريعاً. كان السبب الأول هو أن المطالب تصلح لإقامة دولة اشتراكية عظمى، وليست مطالب لعمال "غلابة" في مصنع متوسط في مدينة صغيرة في مصر. السبب الثاني هو أنه لم تكن لدينا نية أصلاً للتفاوض للحصول على بعض الحقوق، (ما لا يدرك كله لا يترك كله). فقد قررنا أنا وقيادات العمال أن نحصل على كل شيء، و أغرانا الارتباك المفاجئ لوالدي رحمه الله، كنا متعجلين و أفسدنا الأمر.
لكننا في الحقيقة لم نتعلم من الأمر، ولم يدرس الحزب التجربة، وكل ما قاله المسؤول الحزبي: سنكررها مرة أخرى ومن المؤكد أننا سننجح.
 كان هذا غير صحيح، لن يكون هناك نجاح. لأن هذه الطريقة مبنية على الإيمان المطلق بالأيديولوجيا الماركسية (لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها). كما أن الخصم الرأسمالي الخائن (هو والدي في هذه الحالة) ليس مجرد إنسان يخطئ ويصيب، ويمكن الضغط عليه والحصول على مكاسب ولو صغيرة، لكنه هو الشيطان، فلا يمكن أن تتفق مع الشيطان. كان جزءا من تربيتنا هي شيطنة الخصوم، فليس لديهم أي ميزة من أي نوع، وحتى لو فعلوا شيئاً جيداً فمن المؤكد أن هذه مؤامرة هدفها تخفيف الضغط الثوري عليهم وإفشال الثورة الاشتراكية. بل وبعضنا كان يعتبر الحصول على مكاسب صغيرة، هي مسكنات تفسد "الطاقة الثورية" عند العمال وعند المصريين، لذلك لو تم إفسادها سيكون أفضل.   
  لأنني كنت متمرداً على والدي واسرتي ومحيطي الاجتماعي، فقد كنت أتقبل هذه الأفكار بسهولة، وتدريجياً أؤمن بها. فانتقل والدي مع الرأسماليين أمثاله الى خانة "الشياطين"، لم يعودوا بشرا مثلي ومثلك، لكنهم كائنات خرافية لابد أن نقضي عليها وقت أن نستطيع، حتى نحقق الحلم الاشتراكي.
جنة الملائكة الأطهار الثوريين
 الوصول إلى هذا "الإيمان الماركسي" كان متدرجاً داخل حزب العمال الشيوعي، فمن ضمن آليات التجنيد أن يتم خلق عالم موازي تعيش فيه، عالم من الملائكة الأطهار الذين يسعون إلى خلاص الإنسانية من عذاباتها. كل قيمة مجتمعية يضع الحزب بديلاً لها. على سبيل المثال أقنعوني بأن عبد الحليم حافظ مغن برجوازي، علاقته بحبيبته التي يغني لها في الأغاني والأفلام قائمة على العبودية، وهي هدف أساسي لـ"البرجوازية الرأسمالية"، فهي تنشر ثقافة العبودية حتى تظل مستعبدة العمال والموظفين وغيرهم. والنتيجة أنني توقفت عن الاستمتاع إلى مطربي المفضل. اختار الرفاق فيروز صاحبة "الغناء الثوري"، و معها طبعاً الشيخ إمام وعدلي فخري "مطربو اليسار". بذلت جهداً خرافياً للاندماج معهم ووضعهم مكان حليم، لكني فشلت. 
  لأنني كنت محباً للأدب وأحلم بأن أكون أديباً، قرأت كل الأدب الروسي بنهم، (روسيا هي مهد الاشتراكية ) كان نجمه الأشهر "مكسيم غوركي"، فقد كانت التوصية دائما من حزبنا وأصدقائنا ورفاقنا بقراءته وقراءة "جاك لندن". كما قرأت كثيراً لواحد من العمال كان يكتب قصصاً واحتفى به اليساريون، وخاصة الشيوعيين، ينشرون له بكثافة، ويكتب عنه النقاد، وتقام له الندوات. كانوا يعتقدون أنه المنافس الأكبر ليوسف إدريس البرجوازي. لكنه ذهب إلى النسيان،  ولم يبق في وجداني من الأدب الروسي سوى ديستوفسكي وتشيكوف وبقى بالطبع يوسف إدريس.
  تدريجياً تترك العالم الواسع بمشاكله، وترفضه بالإجمال "كله على بعضه"، تدخل "شرنقة الحزب والرفاق"، وتدريجياً تنسلخ من صداقاتك، لتبني صداقات مع الرفاق، تبنيها على أسس "غير برجوازية"، على أسس ثورية. فلا يعجبك اصدقاءك القدامى لأنهم "مازالوا برجوازيين"، ومن دون أن يقصدوا "أعداء لحلم الاشتراكية".
  مثلهم أسرتك التي تنسلخ منها تدريجياً، فهم ايضاً أسرى المفاهيم البرجوازية، والدك يستعبد والدتك و يذلها ويهينها. أعمامك وأخوالك وكل هذا المحيط الواسع ملوث بالبرجوازية ويفتقد "النقاء الثوري"، الذي ستجده داخل "شرنقة" حزب العمال الشيوعي.
 في حالتي كان الأمر أصعب، أسرتي تمتلك مصانع نسيج، وتسرق "عرق العمال"وتبني ثروات "الحرام". وقد ركز حزب العمال الشيوعي المصري أثناء تجنيدي على ذلك. فقد كنت غنيمة لهم، أولاً كعضو وثانياً من منطقة عمالية والأكثر أهمية أنني ابن صاحب مصنع، وعندي علاقات عمالية، فقد كانوا يحلمون ببناء قواعد عمالية تمهيداً للثورة. وقد وصلت إلى الشعور بالعار لأن والدي "صاحب مصنع"، وكنت أنزعج بشدة عندما يذكر ذلك أحد الرفاق أمامي. كما كان بعض الرفاق عندما يريدون إغاظتي يقولون "أصلك برجوازي ابن صاحب مصنع".
 لا يوجد أي فضل لوالدي ولا لأي رأسمالي في بناء مصنعه أو مشروعه، فهم لم يفكروا و يخططوا و يغامروا بأموالهم وجهدهم إلخ. هم فقط مجرد لصوص لعرق العمال الفقراء. 
 لذلك لم تكن هناك مشكلة أخلاقية بالنسبة لي لكي أجند عمال من مصنع أبي (فشلت في تجنيد آخرين من مصانع أخرى)، ولم تكن هناك مشكلة في تنظيم هذا الإضراب. بل كنت فخوراً بذلك، وكنت أشعر بالزهو عندما يذكرها أحد الرفاق.  
عندما سرقت والدي
 حدث للأسف، صحيح أنها لم تكن أموال ضخمة، لكنها في النهاية أموال "مسروقة". كنت مقتنعا أن هذه أموال العمال التي يسرقها والدي الرأسمالي، وأنا  أستعيد جزءا بسيطا منها لدعم "الثورة" التي تعيد لهؤلاء العمال ولكل المظاليم حقوقهم، إنه "استحلال". كنت أتبرع به للحزب، وكنت أنفق من خلاله أيضاً على رفاق فقراء قبل التحاقي  رسمياً بالحزب وبعده. 
 لكن هذا المدد المالي انقطع بعد شهور قليلة، فقد هجرت بيت أسرتي إلى الشارع، والمفارقة أن "شرنقة الحزب" لم أجد فيها مكانا لي، لم أجد مكاناً في بيوت الرفاق، ولم يكن لي نصيب حتى من الذين كنت أنفق عليهم من أموال أبي. تنكروا ولم يدعمني أحد، حتى الرفيق الذي أنفقت عليه ببذخ لأنه كان فقيراً جداً، وكانت دموعه تسيل تأثراً لأن هناك من يعطيه المال من دون مقابل. ورغم أنه التحق بعمل، لم يعطني جنيهاً واحداً، ورفض حتى أن أنام في غرفته التي لا يستخدمها، بدلاً من نومي في الشارع.  
 صديقة وحيدة كانت تمدني من حين لآخر بالمال، وطوال الوقت كانت تساندني، ليس لأنها ماركسية، ولكن لأنها إنسانة طيبة القلب. 
 كان هذا درسا عظيما، لعب دوراً في تغيير حياتي فيما بعد، كما يقول الحديث المنسوب الى رسول الله صلى الله عليه وسلم "خيارُكم في الجاهليةِ ، خيارُكم في الإسلامِ إذا فقُهوا"، فالأيديولوجيا قد تهذب الإنسان، تغير قليلاً سلوكياته، مظهره الخارجي، لكنها لا تغير جوهره، لا تخلقه من جديد. 
http://mubasher.aljazeera.net/opinion/من-أوراق-شيوعي-سابق-4-الثورة-الاشتراكية-العظمى-بدأت-من-مصنع-والدي

No comments:

Post a Comment